قاعدة مراعاة الخلاف - شرعي

شريط إخباري
ما هي اليمين المتممة؟   **   ما هي اليمين الحاسمة؟   **   الاعتقاد السائد عند كثير من المحامين و/او المرافعين الشرعيين هو عدم جواز تقديم استئناف الا بعد صدور حكم قطعي ، الحقيقة ان  هذا الاعتقاد خطا   **   اختلاف قضاة الاستئناف في تفعيل المادة السادسة من نظام تأسيس محكمة الاستئناف الشرعية (تشريع فلسطين 1918-1925)   **   طلب الزوج تأجيل الدعوى لتوقع خروجه من السجن بعد شهر من الموعد المحدد فرفضت محكمة البداية طلبه لكن…..   **  

قاعدة مراعاة الخلاف

 قاعدة مراعاة الخلاف تعريفها، وأهميتها، واثرها كخطة تشريعية

             في تحقيق المناط الخاص

بقلم : أ. رائد عبدالله بدير

بقلم : أ. رائد عبدالله بدير

 

نعيش اليوم حالة ذعر وصدمة في فهم اصول هذا الدين العظيم ، وخصائص هذا التشريع المنير ، ربما للواقع المرير اثر في استقبال الفهم الخاطئ للإسلام والتشريع، او ان شئت قل للانتقائية المبتورة عن كل السياق ، هذا الواقع ربما عجل في انتشار الفهم الخاطئ، كانتشار النار في الهشيم، وربما اليأس ادى الى ارتفاع الشعلة …فتقدم الفهم الخاطئ السقيم وتأخر الفهم الصائب المنير…. فبأحياء اصول هذا التشريع تحيا الامة وتنهض على صراط مستقيم …وقد وجدت في قاعدة مراعاة الخلاف السعة كل السعة لترتيب الاوراق من جديد. في واقع اختلط به كل شيء يحتاج الى تحقيق …ولا تعني هذه القاعدة قبول الواقع بما فيه…لكن ربما تشكل ارضية ومساحة يمكن ان يقف عليها الغالب او حتى الجميع …لننطلق نحو المنشود…قاعدة تجعلك ان تستوعب وتفهم كيفية تصرفك في واقع المسلمين دون ان ترضى بهذا الواقع او تقبله على علاته وفي نفس الوقت دون ان تسكب الزيت على النار فتكون بفتواك او حكمك او علمك سببا في ازدياد اللهيب…تعرف على احدى اهم خطط الطوارئ في التشريع الاسلامي والتي نحن بأشد مسيس الحاجة للعمل بها الا وهي ” قاعدة مراعاة الخلاف”

تعريف قاعدة مراعاة الخلاف وأهميتها:

المراعاة في اللغة كما جاء في لسان العرب ” من راعيت الشيء رعيا ومراعاة :أي لاحظته محسنا إليه، والأمر: نظرت إلام يصير ، والمراعاة أيضا : المحافظة والإبقاء على الشيء ، وفي الحديث ” نساء قريش خير نساء أحناه على طفل في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده”[1]، وأرعاه من المراعاة أي الحفظ والرفق وتخفيف الكلف والأثقال عنه “[2]. ومعنى الخلاف كما جاء في القاموس المحيط من خالف يقال : خالفه إلى الأمر : قصده بعد ما نهاه عنه، وخالفه إلى الشيء :ضاده”[3]، وعن معنى هذه القاعدة عند العلماء في الاصطلاح يقول الشاطبي :  (قاعدة مراعاة الخلاف وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت ، فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد)[4]. ويقول أيضا في شرح معنى هذه القاعدة:  (من واقع منهيا عنه ، فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة ، أو مؤد إلى أمر اشد عليه من مقتضى النهي ، فيترك وما فعل من ذلك ، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل انظر إلى أن ذلك الواقع ، واقع المكلف فيه دليلا على الجملة ، وان كان مرجوحا فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه ، لان ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل اشد من مقتضى النهي ، فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى  قبل الوقوع ، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن من القرائن المرجحة )[5] .هذه القاعدة تعتني بالمنهيات بعد الوقوع ، وقد عرفنا سابقا أن الشريعة الإسلامية مقصدها تحقيق مصالح العباد ، وان الأوامر فيها لجلب المصالح ، وان النواهي فيها لدرء المفاسد ، وهذه القاعدة جاءت لتعالج تصرفات المكلف بعد تلبسه بالممنوع اذاترتب على منعه مفسدة اشد أو اكبر يقول د. السرطاوي: ” ان المفسدة التي حرم الله لاجلها الممنوع ستقابل بمفسدة اشد إذا أردنا زواله فنرجح بقاءه على وجه يليق بالعدل، وبذلك نتفادى وقوع ضرر اكبر من ضرر الأصل”[6]. وهذا كله يبرز أهمية تلك القاعدة الجليلة في دفع المفاسد يقول السنوسي : ” ربما أفتى المفتي بفساد الفعل ابتداء فإذا وقع عاد إليه بالإنفاذ والاعتبار، لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف ، وهو نوع من الالتفات إلى الأمر الواقع والبناء عليه بعد تجديد النظر في المسالة ، بحيث يصير التصرف بعد وقوعه معتبرا وشرعيا بالنظر لقول المخالف ، وان كان ضعيفا في اصل النظر ، لكن لما وقع الأمر على مقتضاه روعيت المصلحة “[7] . وهذا يؤكد أن  هذه القاعدة نوع من أنواع الاجتهاد التطبيقي ، أنيطت بها مهمة ترجيح إحدى كفتي الميزان بعد النظر في الواقع الجديد بما هو مصلحة للمكلف يقول السرطاوي: “هذه القاعدة –مراعاة الخلاف-التشريعية في الاجتهاد التطبيقي تتفرع على اصل في مآلات الأفعال فالشريعة إن حكمت على بعض التصرفات بعدم المشروعية ومنعت منها ورتبت على الوقوع عقابا فلا ينبغي أن تزيد على المذنب العقاب عما طالب به الشرع وخاصة في الأمور التابعة للتصرف “[8] . فالمكلف إذا واقع منهيا عنه في الشرع والأصل المترتب على وقوعه في النهي عنه مفسدة ، لكنه يترك على ذلك بحيث لو نهيناه اتباعا لدليل الأصل لوقع ضرر اشد وابلغ فيترك بالرغم من وقوعه في المنهي عنه اجتنابا وخوفا من وقوع الضرر الأشد وقد  اشتهر بين العلماء قاعدة إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما يقول د.محمد بكر إسماعيل : ” هذه القاعدة ميزان دقيق لارتكاب أخف الضررين عند وقوع مفسدتين يراد دفع إحداهما بالأخرى فترتكب الأخف في سبيل دفع الأشد وتقدير هذا لا يخضع للهوى ولا للعقل المجرد ولكنه يخضع للشرع”[9].

 

 اثر قاعدة مراعاة الخلاف كخطة تشريعية في تحقيق المناط الخاص:

إن قاعدة مراعاة الخلاف تهتم بدفع المفسدة الأشد عن المكلف والبقاء على المفسدة الأخف وحتى وان ارتكب المكلف منهيا عنه، ومر معنا أيضا أن هذه القاعدة تفرعت على اصل النظر في مآلات الأفعال ، وهذا الأصل عظيم في الشرع الإسلامي ، لا يستغني عن اعتباره أحد من حملة الشريعة ، وقاعدة مراعاة الخلاف إحدى الخطط التشريعية المتعلقة بالاجتهاد التطبيقي ، وطالما تعلق الأمر بالتطبيق فلا بد من النظر والتدقيق قبل أن يحكم على الأفعال أنها موافقة للشريعة أو مخالفة لها ، وبعد ذلك يصدر الحكم على الأفعال أو الأقوال وبمعنى آخر لا بد من تحقيق المناط الخاص قبل إصدار الإحكام ، يقول د. السرطاوي : ” لا بد للمجتهد التطبيقي أن ينظر في الممنوعات بعد وقوعها ، فإذا كانت إزالة الممنوع يترتب عليها ضرر اشد من بقائه فقد يجيز الممنوع من وجه يليق بالعدالة  وبمقصود الشارع “[10] .

إذن على المجتهد أن ينظر في مآل التصرفات قبل إصدار الحكم عليها وحتى لو تعلق الأمر بالمنهيات ، فالنظر في المآل والنظر في حال المكلف –تحقيق المناط الخاص- معتبر وعليه مدار الحكم بالموافقة أو المخالفة ، وقد رسمت الشريعة الإسلامية هذا النهج منذ البداية وحثت المجتهدين السير على نفس الطريق والمثال الذي تناوله العلماء حديث البائل في المسجد  عن انس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فاهريق عليه “[11] .

والملاحظ في هذه الواقعة أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأعرابي يستمر في ارتكاب للمحظور ، بل منع أصحابه ونهاهم عن نهيهم الأعرابي  ، قال الصنعاني :  “من فوائد هذا الحديث دفع اعظم المضرتين بأخفهما لانه لو قطع عليه بوله لاضر به، وكان يحصل من تقويمه من محله مع ما قد حصل من تنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد غير الذي وقع عليه البول أول “[12] . ويضيف ابن حجر في الفتح قائلا : ” إنما تركوه يبول في المسجد لانه كان شرع في المفسدة ، فلو منع لزادت ، إذ حصل تلويث جزء من المسجد ، فلو منع لدار بين أمرين : إما أن يقطعه فيتضرر ،  واما أن لا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه أو ثوبه أو مواضع أخرى من المسجد “[13] . فإبقاء واقع الأعرابي وتصرفه على ما هو عليه أخف من منعه ، ولو تم منعه لزادت عليه المفسدة المتوقعة ، بحيث لو نظرنا إلى مآل المنع لتوقعنا مفسدة اشد ، وترتب على المنع مفاسد كثيرة وخاصة أن الأعرابي قد شرع في التصرف واصل التنجس حاصل في المسجد وهذه المفسدة المترتبة على تصرفه ابتداء ممنوعة ومنهي عنها  لكن بالنظر إلى مال المنع يمكن أن يحصل مفاسد اكبر من تنجيس بدنه وثيابه وأماكن أخرى في المسجد ، ويمكن أن يصيبه مرض في بدنه للاحتباس المفاجئ ، وقد تحدث فتنة في المسجد.

هذه المفاسد كلها متوقعة في حال منع الأعرابي من استمراره في ارتكاب المحظور، فبعد وقوع المنهي عنه من جهة هذا الأعرابي ترجح جانب تركه على ما هو عليه درءا للمفاسد التي تترتب على كفه ومنعه ، وبعبارة أخرى بعد النظر في مآلات الأفعال والتدقيق في الأحوال أو تحقيق المناط الخاص يبدّل حكم الأصل الموضوع ابتداء للتصرف بحكم غيره ، ولعل قاعدة مراعاة الخلاف من اصعب القواعد التطبيقية على المجتهدين ، وهي بحاجة إلى نظر دقيق وبذل جهد واسع في تحقيق الحالة التي تندرج تحتها ، وفي هذا يقول الشاطبي : ” النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا ، ولا يحكم المجتهد على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ،وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها ، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال صعب المورد إلا انه عذب المذاق ، محمود الغب جار على مقاصد الشريعة”[14]. والذي جعل تحقيق المناط الخاص صعب المورد هوان التحقيق نفسه يجري على تصرف او قول مجمع بين العلماء على حظره ، فالنظر والتحقيق يرد على تصرف أو قول لا يختلف اثنان من حملة الشريعة على منعه ، والتحقيق ينصب على مآل المنع وفي نفس الوقت بتتبع لمقاصد الشريعة ، فما ينتج عن تحقيق المناط الخاص يكون أدلة قوية مقابل دليل الأصل وهو النهي ومثال الأعرابي السابق بين واضح على هذا ، والخلاصة لو تم إعمال قاعدة مراعاة الخلاف دون تحقيق المناط الخاص لكان هذا إقرار للتصرفات المحظورة شرعا ، من هنا تبرز أهمية تحقيق المناط الخاص في قاعدة مراعاة الخلاف . وكم نحن اليوم بحاجة لعلماء يتقنون فن تطبيق هذه الخطة الشرعية الطارئة على الأصل العام سواء على تصرفات الأفراد أو الأمة الإسلامية مع أن الحق مما مر معنا من قول الشاطبي أن إدراك فن الاجتهاد التطبيقي عامة واعمال خطط الطوارئ منه خاصة مجال صعب المورد عذب المذاق محمود العاقبة والاهم من ذلك كله انه جار على مقاصد الشريعة ، يحمي ذاتية التشريع من التناقض ومن أن تعود على نفسها بالهدم .

 

[1]    ابن حبان- صحيح ابن حبان– مؤسسة الرسالة بيروت 1993  وانظر صحيح مسلم بشرح النووي– ابو زكريا يحيى بن شرف النووي-بيروت دار النشر الطبعة الثانية ج 16 ص 80 .

[2]     ابن منظور – لسان العرب – فصل الراء المهملة ج14 ص 329

  [3]    الفيروز ابادي- القاموس المحيط-ج 1 ص 251

[4]     الشاطبي-الموافقات-ج 4 ص 202

[5]  نفس المرجع –ج 4 ص 203

 [6] سرطاوي- مبدا المشروعية – ص 245

  [7] السنوسي-مراعاة الخلاف-الرياض-مكتبة الرشد ص 49

 [8] سرطاوي-  مبدا المشروعية– ص 244

 [9] محمد بكر إسماعيل-القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه-دار المنار الطبعة الاولى 1997 ص 104

 [10] د.علي السرطاوي- مبدأ المشروعية – ص 244

 [11] مسلم- صحيح مسلم –دار احياء التراث العربي –بيروت ج 1 ص 236 حديث رقم 284 في الطهارة.

[12]  الصنعاني- محمد بن إسماعيل الصنعاني – سبل السلام -دار الحديث –القاهرة –كتاب الطهارة-باب المياه-جزء 1 ص 32 حديث رقم 10

 [13] ابن حجر-فتح الباري– دار إحياء الثراث العربي-بيروت الطبعة الثانية ج 1 ص 257

 [14] الشاطبي-الموافقات-ج 4 ص 195

 
انتباه : لا تعتبر المادة المنشورة في الموقع ولا بأي حال من الاحوال مادة استشارية قضائية ولن تكون المادة بديلاً للأستشارة القانونية والقضائية ...... كل من يستعمل المواد المنشورة في الموقع بأي طريقة فالمسؤولية كلها تقع على مستعملها ولا تكون لأدارة الموقع اي مسؤولية ولا بأي شكل من الاشكال